وجع لا يُحتمل خلف القضبان.. أمهات يُفصلن عن أطفالهن في سجون بريطانيا
ولادة مقيدة وانفصال يُشبه الموت
جلست 29 امرأة أمام الدكتورة لورا أبوت، واحدة تلو الأخرى، داخل غرف صغيرة باهتة في خمسة سجون بالمملكة المتحدة، حيث سردت كل واحدة منهن تجربة فقدان طفلها، في لحظات بدت مشبعة بالحزن، رغم أنهن لم يكنّ ثكالى بالمفهوم التقليدي، وما إن غادر الحراس المكان، حتى انهارت الجدران النفسية وذرفت النساء دموعًا نادرة، متحدثات عن فصل حديث بينهن وبين أطفالهن المولودين حديثًا في الحجز، أحيانًا بعد أيام فقط من الولادة.
روت إحدى النساء بمرارة، وفقا لما أوردته صحيفة "الغارديان" البريطانية: “كان الأمر أسوأ من الولادة. الألم لم يكن جسديًا فقط... كان في صدري وقلبي وبطني”، أما أخرى فقالت: “كأن جسدي كله يتوق إليه”، في حين شبّهت ثالثة الانفصال بفقدان طرف من جسدها أو حتى بصرها.
ورغم أن بعض الأمهات كن لا يزلن يُنتجن الحليب، فإن القيود والبيئة العقابية أجبرتهن على إخفاء ذلك، إحداهن اضطرت لعصر الحليب يدويًا في حوض الزنزانة خشية الحديث عنه.
بحثٌ عن الأمهات المنسيات
أجرت الدكتورة أبوت، القابلة السابقة والمحاضرة بجامعة هيرتفوردشاير، هذه المقابلات ضمن مشروع "الأمهات المفقودات" الذي يستعد المتحف البريطاني لإطلاقه في 8 مايو، ويمثّل المشروع ثمرة ثلاث سنوات من البحث بالتعاون مع مؤسسة Birth Companions وفريق من النساء ذوات الخبرة الحياتية، ويسلط الضوء على شريحة غير مرئية من المجتمع.
لاحظت أبوت أن كثيرًا من النساء لم يتحدثن من قبل عن تجاربهن، مشيرة إلى أن كواهلهن المثقلة بالذكريات كانت تنهار فجأة بين جدران السجن، وسط أصوات الصراخ والضرب في الخارج.
قرارات غير منصفة
سُمح لبعض الأمهات بالبقاء مع أطفالهن حتى يبلغوا 18 شهرًا، عبر وحدات مخصصة داخل ستة سجون فقط من أصل 12 في إنجلترا وويلز، لكن لم تُمنح كل الأمهات هذا الامتياز، فمن أصل 92 طلبًا في عامي 2023 و2024، تم قبول 50 فقط.
شهدت أبوت خمس جلسات لاتخاذ القرار بشأن منح الأمهات مقاعد في تلك الوحدات، وأكدت أن النتائج كانت "غير متسقة" في بعض الأحيان.. وقد تُعقد هذه الاجتماعات في وقت متأخر جدًا أثناء الحمل، أو حتى بعد الولادة، ما يسبب ضغطًا نفسيًا شديدًا.
لا صوت قانونيًا للأم
رغم أن الأمهات يُسمح لهن بالتحدث في الاجتماعات، فإنهن لا يتمتعن بأي تمثيل قانوني. وقد يتغيب الأخصائيون الاجتماعيون، أو لا تكون لديهم معرفة مسبقة بالنساء المعنيات، رغم أن نتائج الاجتماعات قد تؤدي إلى إبعاد الأطفال عن أمهاتهم ووضعهم في دور الرعاية أو تبنيهم.
ترى أبوت أن الفصل يُمارس بشكل مفرط، خاصة أن أكثر من 70% من النساء السجينات لم يرتكبن جرائم عنيفة، وقالت: "هناك حالات تبرر الفصل.. لكن لبعض النساء اللاتي قابلتهن، كان من الواضح أنه كان ينبغي منحهن فرصة".
آنا.. صمتٌ ثقيل وجرح لا يندمل
تجسدت هذه المعاناة في قصة آنا (اسم مستعار)، التي أُرسلت إلى السجن وهي في شهرها السادس من أول حمل لها، بعد أن حصلت على مقعد في وحدة الأمهات، تم الإفراج عنها بكفالة، ما اضطرها لإعادة التقديم بعد عودتها للسجن، ما أدى إلى فصل دام خمسة أسابيع عن طفلها.
وصفت آنا كيف نُقلت إلى المستشفى وهي مكبّلة، ولم تُفكّ القيود إلا قبيل دخولها جناح الولادة، وعندما رُفض طلبها لاحقًا، بدأت تفكر في الانتحار، وامتنعت عن رؤية ابنها، "كان الأمر كما لو أن أحدهم يمزق قلبي"، قالت باكية.
ورغم استمرار إنتاجها الحليب، لم تُقدم لها أي توجيهات، فاضطرت لسحبه يدويًا تحت مياه الاستحمام، بينما كانت تكتّم أفكارها الانتحارية خوفًا من أن تُستخدم ضدها.
روت سيدة أخرى عن نزيلة رفضت الضغط على جرس الزنزانة رغم بدء آلام المخاض، خشية أن يُؤخذ طفلها مباشرة، "بدت كما لو أنها تريد الاحتفاظ بطفلها لأطول فترة ممكنة"، قالت إحداهن. في النهاية، اضطروا إلى إجبارها على الولادة.
من رسالة دكتوراه إلى حملة إنسانية
جاء مشروع أبوت تتويجًا لرسالة دكتوراه بدأت عام 2012 عن تجارب النساء الحوامل في السجون، ولم تكن لها خلفية شخصية مع السجون أو السجينات، لكنها رأت بعينيها مشاهد هزّتها، تتذكر: "رأيتُ امرأة تُعيد طفلها بعد الزيارة ومعها أكياس حليب كانت قد عبّأتها.. لم أستطع نسيان ذلك".
وتحوّلت الصدمة إلى واقع قاتم في عام 2015 حين انتحرت ميشيل بارنز، (33 عامًا)، بعد أن فُصلت عن ابنتها ولم تُمنح فرصة لرؤيتها مجددًا، في سابقة وصفها تقرير أمين المظالم بالانتهاك الخطير.
تدابير حكومية لا تغطي الفجوة
ردت وزارة العدل بالإشارة إلى برامج تدريبية أُطلقت عام 2022 لضباط السجون، تشمل وحدات حول الحمل والفصل، كما أصبح هناك تخطيط إلزامي متعدد التخصصات ورُصدت أدوار لضباط اتصال مختصين.
لكن أبوت نفت ملاحظتها لأي تدريب فعلي حول الفصل القسري، وانتقدت محدودية التدريب للقابلات، والموظفين الاجتماعيين، وضباط السجن على هذه القضايا الحساسة. كما تحدّث بعض العاملين إلى أبوت عن معاناتهم النفسية أثناء التعامل مع الأمهات.
احتضان البطانية بدل الطفل
في واحدة من أكثر الشهادات قسوة، تحدثت أم فقدت ابنها بعد أيام من الولادة، ولا تزال تحتضن بطانيته كل ليلة، قالت أبوت عنها: "بدت كطفلة تحتضن بقايا الأمل"، وتتابع: "مهما كان قرار الفصل، فإن الأم تحتاج إلى دعم خاص.. الانفصال عن الرضيع عقوبة داخل العقوبة".
تقدَّر نسبة النساء السجينات في بريطانيا اللاتي هن أمهات بنحو 60% إلى 70%، وغالبًا ما يكنّ المسؤولات الرئيسيات عن أطفالهن قبل دخول السجن، وتشير الإحصاءات إلى أن هناك نحو 3,300 امرأة في السجون في إنجلترا وويلز (بدءاً من عام 2024)، ما يعني أن هناك آلاف الأطفال يتأثرون سنويًا بسجن أمهاتهم.
لكن ما يثير القلق أن نحو 95% من الأطفال الذين تنفصل عنهم أمهاتهم أثناء فترة السجن لا يُسمح لهم بالبقاء معهن، حتى في الحالات التي لا تنطوي فيها الجريمة على عنف أو تهديد مباشر، وتُعد وحدات الأم والطفل (MBUs)، التي تتيح بقاء الرضّع مع أمهاتهم في السجن، محدودة للغاية، ولا تتوافر لجميع المحتاجات إليها، كما أظهر تقرير "الأمهات المفقودات".